الإثنين 10 نوفمبر 2025 08:24 مـ
مصر وناسها

    رئيس مجلس الإدارة محمد مجدي صالح

    غطاطي للإطارات
    إقتصاد

    من المقايضة إلى ملاذ آمن يثق فيه الناس العالم يحتاج إلى نظام مالي جديد

    الباحث احمد عزمي
    الباحث احمد عزمي

    المقايضة أبسط نظام تجاري يعود إلى الواجهة في زمن الأزمات والحروب

    الحفاظ على قيمة العملة مفتاح استقرار السلطة وهناك مؤشرات تعزو سقوط الإمبراطورية الرومانية إلى انهيار عملتها

    لم تشهد إنجلترا أي تضخم خلال 200 عام تقريبا حتى إنهاء التعامل بمعيار الذهب عام 1913.

    حكومات أزمنة الحرب تعلم أنها غير قادرة على التمويل إلا بتسريع دوران عجلة المطابع لطباعة أوراق النقد

    اقرأ أيضاً

    فقدت الأوراق المالية الفرنسية قيمتها لدرجة أن العامة تجمعوا في الساحات لإحراقها

    أرادت الولايات المتحدة الاستفادة من انتصارها في الحرب العالمية الثانية فقدمت مقترحا لإقامة نظام مالي يقوم على الدولار

    "شينخوا" أعلنت في بداية عام 2013 أن الوقت قد حان لإنهاء أمركة العالم وتحدثت عن الحاجة إلى نظام مالي لا يعتمد على أمريكا

    دور الذهب في عملية الانتقال إلى نظام الاحتياطي متعدد العملات مسألة مهمة وأمريكا وصندوق النقد الدولي يخططان لأن يكون الدولار أساسي فيه

    بقلم الباحث أحمد عزمي

    في عام 2008 أعلنت عدة بنوك عالمية إفلاسها، كان أشهرها بنك ليمان برازر الأمريكي، ما دعا دولا عديدة إلى الحديث عن إنشاء نظام مالي عالمي جديد، فقد كانت الرأسمالية على وشك الانهيار، لولا تدخل الحكومة الأمريكية بتقديم حزمة حوافز مالية ونقدية، وبعد ذلك بعامين من إسقاط المصارف تعرضت عدة دول لأزمات طاحنة: اليونان، البرتغال، إسبانيا، وفرضت برامج تقشف، وفشل خفض العملة في إعادة موازنة العملات، أو التجارة العالمية، في إنقاذ الاقتصاد العالمي.

    يرى آدم سميث أن النزوع إلى تبادل شيء أو مقايضته بشيء آخر، يعتبر من المقومات الأساسية للطبيعة الإنسانية، وكان الإنسان يقوم بعمليات التبادل والمقايضة، منذ عصور سحيقة، رغم عدم تقبل علم النفس الاجتماعي الحديث لهذه الحقيقة، فهل نحن في حاجة إلى نظام مالي عالمي جديد؟!

    إذا عدنا إلى فجر البدايات، فإنه لم يكن هناك من وجود للمال بصيغته التي نعرفها الآن، لم يكن هناك حاجة إلى نظام تجاري بالنسبة لمجتمع، يقتصر استهلاكه على مواد ضرورية قليلة، وعندما أخذ هذا المجتمع في التطور، نشأ الطلب على نظام تجاري أكثر تعقيدا، ونتج عن الطلب نظام من المقايضة، وأضحى استخدام المنتجات المرغوب فيها، مثل الماشية واللحوم، وسيلة للدفع.

    مع هذا لا تزال المقايضة أبسط نظام تجاري، وهو نظام يعود إلى الواجهة في زمن الأزمات والحروب، مثلا كانت السجائر وسيلة مستخدمة للمقايضة في أوروبا المدمرة في الحرب العالمية الثانية، حتى نهايتها، وقامت السجائر مقام المال، وظهرت المقايضة في الأرجنتين عام 2001 عندما انهار النظام المالي، ورفضت الدول الأجنبية إقراضها، وتجدد الأمر في صيغة النفط مقابل الغذاء بالعراق، زمن المقاطعة، والاستعداد للغزو الأمريكي لبغداد عام 2003.

    اضطرت إيران أيضا إلى اللجوء للمقايضة، بسبب المقاطعة الاقتصادية المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وحجبت هذه المقاطعة إيران عن نظام المدفوعات الدولية، وحرمتها من الدفع بالأسلوب الدولي المعتمد، رغم أن للمقايضة عيوبا كثيرة، إذ لا حاجة مستمرة إلى بعض المنتجات، ولا تتمتع بعض السلع باستقرار في قيمتها، خاصة إذا كانت قابلة للتلف.

    منذ عام 700 قبل الميلاد والناس ينظرون إلى الذهب والفضة، على أنهما وسيلتان للمقايضة، فقد شكل هذان المعدنان أساس النظم النقدية لآلاف السنين، بفضل خصائصهما الفريدة، وندرتهما وجاذبيتهما، وهما معدنان مرغوب فيهما، فضلا عن استحالة نسخهما، كما أنهما العنصران الأكثر ملاءمة، بوصفهما وسيلة للدفع، وهكذا أصبحت المعادن الثمينة حافظة مثالية للقيمة، وهذا ما يجيب عن السؤال: لماذا يبقى الطلب على الذهب والفضة مستمرا عبر التاريخ إلى الآن؟!

    ظل الحال على ما هو عليه، إلى أن صممت الصين أول عملة نقد معدنية، وخضعت صناعتها لرقابة صارمة، من قبل الحكومة، لضمان انتظامها، وبنى القادة التاريخيون: الإسكندر الأكبر ويوليوس قيصر والإمبراطور أوغسطس، نظاما ماليا، يقوم على الذهب، فالحفاظ على قيمة العملة هو مفتاح استقرار السلطة، وهناك مؤشرات قوية تعزو سقوط الإمبراطورية الرومانية إلى انهيار عملتها، وهنا عادت المقايضة مرة أخرى.

    أيضا عقب انهيار الإمبراطورية البيزنطية، وانتشار وباء الطاعون، وسلسلة الانهيارات المالية، التي عصفت بأوروبا، استبدل البيزنط (عملة ذهبية) بقطع نقدية فضية في عدد من البلدان الأوروبية، في عام 1550 حتى أوائل القرن السابع عشر، وتلا ذلك ارتفاع في الأسعار، وشهدت الحقبة الممتدة ما بين عامي 1750 و1870 كثيرا من الحروب في قارة أوروبا، واتجهت كميات كبيرة من الفضة شرقا، ما سبب اختفاء عدد من معايير الفضة مع الزمن.

    يوفرالذهب الأمان النقدي، وهو السلاح الأهم في مواجهة انخفاض قيمة المال، ويؤمن الحرية الاقتصادية للمواطنين، مادامت أموالهم قابلة للتحويل إلى ذهب، متى أرادوا، وهذا هو سبب أهمية الذهب، بوصفه ذا قيمة ثابتة على مستوى العالم، وبسبب النقص المتزايد في الفضة، اعتمدت المملكة المتحدة وعدد من الدول معيار الذهب في عام 1816 وسرعان ما لحقت بها كندا عام 1853 والولايات المتحدة سنة 1873 ثم ألمانيا، حيث صدر المارك الذهبي الجديد في عام 1872.

    ازدادت شعبية معيار الذهب بصورة متزايدة في القرن التاسع عشر، واستقرت الأسعار لمدة طويلة، بفضل التأثير الانضباطي المالي، الذي يوفره معيار الذهب، فعلى سبيل المثال لم تشهد إنجلترا أي تضخم خلال 200 عام تقريبا، حتى إنهاء التعامل بمعيار الذهب عام 1913.

    الحروب والأوراق المالية

    غالبا ما تمول الحروب بالنقد الورقي، ولهذا السبب تقع الأنظمة المالية للدول المتحاربة تحت الضغط، هكذا كانت الحال في الحرب العالمية الأولى، وحروب فيتنام والعراق وأفغانستان، وشهدت الحقبة الممتدة من عام 1850 إلى 1914 ازدهارا اقتصاديا في أوروبا، عندما اعتمد معظم الدول معيار الذهب، ولم تشتعل في تلك الحقبة أي حروب، وبقيت قيمة الدولار مستقرة، طيلة فترة اعتماد الولايات المتحدة معيار الذهب.

    يضع معيار الذهب حدا لتأثير السياسيين والمصرفيين في الاقتصاد، لأنهم يفقدون قدرتهم على التاثير في أسعار صرف العملة، إضافة إلى أن طباعة المال لتزويد الشركات بقروض ميسرة لدفع عجلة الاقتصاد، لا تكون ممكنة، كما أن معيار الذهب لا ينهار أو يتفكك من تلقاء نفسه، لكن هذا يحدث عندما يكون هناك عجز تجاري كبير، لأن احتياطيات الذهب تنضب بسرعة، وعندما تحدث هذه التدفقات لن تتمكن الدول من إبقاء عملتها، قابلة للاستبدال بالذهب، ستضطر إلى الانسحاب من معيار الذهب، وهذا ما حدث للولايات المتحدة عام 1971.

    تخلى عدد من الدول الأوروبية عن معيار الذهب في عام 1914 لتتيح لنفسها طباعة المال اللازم، لتمويل الحرب العالمية الأولى، لأن حكومات أزمنة الحرب تعلم أنها غير قادرة على تمويل الحرب، عن طريق زيادة الضرائب، أو الاقتراض من المصارف، لذا تلجأ إلى تسريع دوران عجلة المطابع، وهي أسهل طريقة، وغالبا ما تكون الحل الوحيد لتمويل الحرب.

    فقاعة ائتمانية ضخمة

    واصل الضخ المفرط للمال مسيرته، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ما أدى إلى نشوء فقاعة ائتمانية ضخمة، في العشرينيات من القرن الماضي، الأمر الذي أدى في النهاية إلى الكساد الكبير في عام 1929 وأعقب ذلك انهيار الاقتصاد العالمي، ودخوله في أزمة عميقة.

    في كتابه الذي يصف رحلاته في الشرق الأقصى يتحدث الرحالة "ماركو بولو" عن الإمبراطور خان، الذي حكم الشرق الأقصى، وكيف ابتدع طريقة لصناعة أوراق مالية، تعادل قيمتها الذهب والفضة، لكن التجربة انتهت بالفشل، فقد رفض كثيرون أن يصدقوا أن هذه الأوراق تساوي شيئا، واختفت الأوراق المالية في آسيا في القرن الرابع عشر، كان الإقبال على الفضة كبيرا، وكان ربع سكان العالم يعيشون في الصين آنذاك، ولم تعد الأوراق النقدية للظهور حتى عام 1609.

    كانت فرنسا على حافة الهاوية بسبب كثرة الحروب، التي خاضها الملك لويس الرابع عشر، فسمح للاقتصادي "جون لو" بإنشاء مصرف ذي صلاحيات محدودة، لإصدار الأوراق النقدية، ونجح المصرف، وأصبحت الأوراق النقدية قانونية، ثم ضخت كميات كبيرة منها بهذه الطريقة، فأسهمت في تحفيز الاقتصاد الفرنسي.

    فيما بعد أخذ الناس يفقدون الثقة في الأوراق النقدية، لذا حددت الحكومة الفرنسية الحد الأقصى للأسعار، لكبح جماح التضخم، ومنع طلب الثمن بالذهب، بدل النقود الورقية، عند بيع البضائع، وفي محاولة أخيرة لحماية نظام النقود الورقية، حظرت فرنسا تجارة المعادن الثمينة، لكن بلغ فقدان الثقة لدى الجماهير في العملة الفرنسية ذروته، وفقدت الأوراق المالية قيمتها، وكان الغضب الشعبي يتنامى لدرجة أن العامة تجمعوا في الساحات لإحراق النقود الورقية.

    بسبب التضخم المتلاحق والفوضى طرح نابليون نظاما نقديا ثنائي المعدن، أعاد الاستقرار المالي منذ عام 1803 فصاعدا، وبذلك حافظ الفرنك الفرنسي على وجوده حتى انتقلت الدولة إلى اليورو، فقد توقفت الحكومة الفرنسية في عام 1914 عن ربط الفرنك بالذهب، لأنها اضطرت للاستمرار في طباعة النقود الورقية، لكي تتمكن من تغطية نفقات الحرب العالمية الأولى.

    في العقود الأخيرة خاضت الولايات المتحدة حروبا خفية، لتضمن عدم تأثر الأسواق المالية بالتضخم المتزايد، واستخدمت في سبيل ذلك مقاييس، منها الحفاظ على أسعار الذهب، عند مستويات منخفضة، فالمصارف والحكومات تعملان على احتكار طباعة النقود، ويجب أن تبقى حقيقة أن المال غير مدعوم بشيء سوى الأمل والثقة، مخفية عن الناس العاديين.

    خدعت الدعاية الأمريكية معظم المصرفيين الأوروبيين: بأن الذهب لم يعد يؤثر في النظام المالي الحالي، ففي هولندا أوقفت تعاملات الذهب تقريبا في المصارف، لكن في سويسرا لا يزال شراء الذهب والفضة من المصارف ممكنا.

    مصرف التسويات الدولية

    يعتبر مصرف التسويات الدولية أصل المصارف المركزية، وقد أنشئ أثناء أحد مؤتمرات المصرفيين الدولية في ألمانيا عام 1929، وبعدها بعام في هولندا، وكان الهدف من إنشائه تسهيل دفع التعويضات، التي فرضت على ألمانيا، بموجب معاهدة فرساي بعد الحرب العالمية الأولى، لكن بعد التضخم المفرط في جمهورية فايمار بين عامي 1921 و1924 وضعت خطة جديدة لتسوية التعويضات.

    بين عامي 1933 و1945 ضم مجلس إدارة المصرف اثنين من النازيين، تمت محاكمتهما لاحقا بجرائم حرب في نورمبرج، وبعد الحرب العالمية الثانية أصبح من الواضح أن مصرف التسويات الدولية، دار صرافة للنازيين، ساعد في عملية غسل الذهب المسروق، الذي صودر من ضحايا معسكرات الاعتقال في ألمانيا النازية، تحت إشراف هذين القائدين، فشعر الأمريكيون عندئذ بالفزع، ودعموا حركة إلغاء ذاك المصرف، وأيدهم بعض الأوروبيين، واتخذ قرار بتصفيته، لكنه نجا بأضرار بالغة، واحتاج إلى وقت طويل، كي يلعب دورا مناسبا فيما بعد.

    يقول آلان جرينسبان – الرئيس السابق لمجلس الاحتياطي الفيدرالي – "إن ارتفاع أسعار المعادن الثمينة، كما السلع الأخرى، مؤشر واضح وإنذار مبكر للتحول عن العملات الورقية، وفي هذه المرحلة لدينا نقود ورقية مطبوعة من قبل الحكومة، وعادة ما يكون المصرف المركزي هو المخول بطبعها، لذلك يجب أن تكون هناك آلية دقيقة تحد من كمية المال المطبوع، وذلك بالاعتماد على معيار الذهب، هناك عدد منا يعتقد أننا أبلينا بلاء حسنا، في الحقبة الممتدة من 1870 إلى 1914 عندما اعتمدنا معيار الذهب عالميا".

    لكن روبرت موريس، وهو مسئول أمريكي سابق، أسس أول مصرف مركزي في الولايات المتحدة، ويعد الأب المؤسس لنظام الائتمان في أمريكا، واستند إلى نموذج مصرف إنجلترا، وحاز ميزة إصدار المال بحسب الحاجة، ومن المثير للاهتمام معرفة أن ضمانات المصرف، كانت كمية كبيرة من الذهب الذي قدمته فرنسا للولايات المتحدة.

    الدولار عملة العالم

    انكفأ الاقتصاد الأمريكي قبل الحرب العالمية الثانية إلى الداخل، وكان الجنيه الإسترليني البريطاني العملة العالمية قبل الحرب الأولى، لكنه أصيب بضعف كبير بعد التخلي عن معيار الذهب في عام 1914 وكان هذا مؤقتا إذ أن معيار الذهب اعتمد من جديد في عام 1925 وجاءت الضربة القاضية للجنيه الاسترليني، مع اضطراره إلى التخلي عن معيار الذهب للمرة الثانية في سبتمبر 1931.

    في ذلك الوقت اكتسب الدولار أهمية متزايدة خارج الولايات المتحدة في الحربين العالميتين، ورأت الولايات المتحدة في أوائل عام 1944 أن الوقت قد حان للاستفادة من انتصارها المنتظر، إذ أدرك الأمريكيون المكاسب العظيمة لرفع مكانة الدولار، ليصبح عملة للعالم، ونتيجة لقيام عدد من الدول بتسديد مستحقاتها لديها بالذهب في الحرب العالمية الثانية، ونهبها لقدر كبير من الذهب، فقد أصبح ثلثا احتياطيات الذهب في العالم تقريبا، تحت تصرف الولايات المتحدة، في نهاية الحرب.

    كما أن قرار الرئيس الأمريكي روزفلت في عام 1933 بمنع الأفراد من امتلاك الذهب، قد أدى إلى مصادرة كمية منه، وزيادة في مخزون الولايات المتحدة من الذهب، وأمكن استخدامه في دعم الدولار الأمريكي، بوصفه احتياطيا جديدا للعالم، وطبقا للمنتدى الرسمي للمؤسسات المالية والنقدية، فإن "أمريكا استحوذت في عام 1925 على 45% من إجمالي مخزون الذهب المالي في العالم".

    مع اقتراب الحرب العالمية الثانية من نهايتها، قررت الولايات المتحدة تقديم مقترحها لإقامة نظام مالي دولي جديد، ودعت لهذا الغرض وزراء مالية من 44 دولة لحضور مؤتمر حول مستقبل النظام المالي العالمي، وذلك في عام 1944، أرادت الولايات المتحدة أن تقنع البلدان الأخرى بدعم الانتقال إلى نظام نقدي جديد، يقوم على الدولار بدلا من الذهب.

    عقب المؤتمر أصبحت العملات الوطنية مربوطة بالدولار، ومرتبطة بالذهب بسعر 35 دولارا للأونصة، وبذلك أصبح الدولار العملة الاحتياطية الرسمية للعالم، وأساس النظام النقدي، فإدارة العالم تتم الآن تحت معيار (ذهب زائف) يطلق عليه الاقتصاديون اسم نظام الصرف بالذهب.

    يشعر الأوروبيون بالقلق من أن تكون الولايات المتحدة قد طبعت من الدولار ما يفوق كثيرا الكمية، التي يمكن دعمها بالذهب الذي تملكه، وفي نهاية ستينيات القرن الماضي، بدأت فرنسا مع عدد من الدول الأخرى في شراء الذهب بالدولارات الفائضة لديها، حتى أن ديجول أرسل البحرية الفرنسية إلى أمريكا لنقل سبائك الذهب إلى باريس، وتبعها في هذا عدد من الدول الأوروبية.

    ارتفعت احتياطيات الذهب في تلك الدول، حتى إن اقتصاديا كبيرا قال: "أنتم تهزون القارب" فقيل له: "حسنا إذا كان باستطاعة هذا هز القارب، فإنه ليس قاربا ثابتا كما يجب" لكن أمريكا فقدت بين عامي 1959 و1971 أكثر من نصف احتياطياتها، ولو كتب لهذه العملية أن تستمر فإن أمريكا كانت ستتعرض لخطر كبير، حتى أن الرئيس نيكسون خطب قائلا: "إن قيودا فورية فرضت على الأجور والأسعار من ضريبة إضافية بنسبة 10% على الواردات وإغلاق نافذة الذهب".

    شعر نيكسون بالخطرمن إمكانية حدوث انخفاض في الطلب العالمي على الدولار، فهناك نقص ثقة به، وهناك حاجة كبيرة إلى تأمين استقراره، ليحافظ على مكانته، بوصفه عملة احتياطية عالمية، من هنا جاءت فكرة كيسنجر (وزير الخارجية الأمريكي) بالطلب من السعودية الموافقة على بيع النفط مقابل الدولار فقط، واستثمار جزء من هذه الدولارات في سندات الخزانة الأمريكية، ووافقت دول الأوبك على بيع نفطها مقابل الدولار.

    حدثت تحولات ضربت تجارة البترودولار في مقتل، فقد حول العراق معاملاته النفطية في عام 2000 إلى اليورو، في إطار برنامج النفط مقابل الغذاء، وأنشأت إيران بورصة خاصة بها عام 2008 وباعت النفط مقابل الذهب واليوورو والدولار والين، ودعمت فنزويلا هذا القرار، وشكلت ليبيا تهديدا للبترودولار في عام 2010 عندما أراد القذافي إنشاء عملة موحدة لدول أفريقيا، باسم الدينار الذهبي، بحيث تجري معاملات النفط بواسطته، وأيضا فعلت سوريا، وسعت أمريكا إلى تغيير نظام الأسد هناك، منذ ذلك الحين.

    في كتابه "حرب عملة النفط" الصادر عام 2005 أوضح "وليام كلارك" أن الدافع النفطي يقف خلف غزو الولايات المتحدة وبريطانيا للعراق في عام 2003 وكتب "آلان جرينسبان" في مذكراته: "يحزنني أنه لا يليق سياسيا الإقرار بما يعرفه الجميع، تتمحور حرب العراق معظمها حول النفط".

    يرى مؤلف هذا الكتاب أن "التحدي الحقيقي الذي يواجه تجارة البترودولار، يكمن في حال قررت دول البريكس أن تسقط الدولار من تعاملاتها التجارية، وعندها ستكون أيام الدولار بوصفه عملة احتياطية عالمية معدودة" وهذا ما يفسر ظهور الذهب من جديد، وبداية العودة إلى الأصول الثابتة، بما فيها الأراضي الزراعية".

    تريد الولايات المتحدة الإبقاء على سيادة الدولار، أطول وقت ممكن، لأن مصلحتها تتمثل في منع التحول المتسارع من الدولار إلى الذهب، وقد حاول المصرفيون في العقود الماضية الإبقاء على سعر الذهب تحت السيطرة، لأن فصل المال عن الذهب أدى إلى سهولة كبيرة في تكوين أموال جديدة، فأفلتت طفرة الائتمان من عقالها، نتيجة لإنهاء معيار صرف الذهب في سبعينيات القرن الماضي.

    حروب الذهب

    هذه الحروب على الذهب بدأت منذ ما يقرب من 100 عام، وفي الستينيات اكتسب الأمر زخما، مع تشكل "مركز لندن للذهب" لكن هذه المشاريع فشلت في عام 1969 ولم تصمد لوقت طويل، من هنا جاء كتاب المصرفي السويسري "فرديناند ليبس" بعنوان "حروب الذهب".

    الحرب على الذهب في جوهرها سعي لدعم الدولار، لكن ليس هذا هو المحرك الوحيد لهذه الحرب، فالدراسات تشير إلى أن سعر الذهب، والتوقعات العامة للتضخم، على قدر كبير من الترابط، وعندما يفترض الناس أن التضخم سيبقى عند مستويات منخفضة، سيتصرفون وفق هذا الأساس، ولن يندفعوا لشراء الأصول الثابتة، وتؤكد دراسة أجريت عام 1988 أن سعري الذهب والفائدة مترابطان، فانخفاض سعر الذهب يؤدي إلى انخفاض أسعار الفائدة.

    وقد حاول المصرفيون سحب الذهب من التداول، بعد أن اعتمد الدولار معيارا، بدلا من الذهب، ومن الحجج التي يسوقونها لإثناء المستثمرين عن شراء الذهب والفضة أن هذين المعدنين لا يعطيان عوائد مباشرة كالفوائد والأرباح، وإذا كان الاستثمار في الذهب سيقوض نظام الأوراق المالية النقدية، فالمصارف المركزية لديها الأسباب كلها لتخشى من العودة إلى الذهب، ولذا تشن عليها حروبا عديدة.

    ليست المصارف المركزية فقط هي التي تخوض غمار هذه الحرب على الذهب، وإنما كذلك المؤسسات المالية والتجارية، فمنذ العام 2000 أوقفت معظم المصارف الهولندية عملية بيع الذهب، وأنهت خدمات إيداعه للعملاء.

    بعد انهيار وول ستريت عام 1929 أصبح أمر بقاء النظام المالي الأمريكي على المحك، فقدم الرئيس روزفلت خطة إنعاش اقتصادي سميت (الصفقة الجديدة) وخولت هذه الخطة الحكومة الاتحادية صلاحيات مصادرة الذهب، ووضعه تحت إدارة وزارة الخزانة الأمريكية.

    ارتفعت قيمة الذهب، وأثر تخفيض الدولار مقابل الذهب في الاقتصاد، وارتفعت مبيعات المنتجات الأمريكية في الخارج، بسبب انخفاض قيمة الدولار، واستخدم روزفلت سلطاته لإصدار أمر بمنع المدنيين من حيازة الذهب، وقد وثقت عدة حالات مصادرة قسرية له، وبقي هذا القانون معمولا به حتى عام 1974 وحظر على المناجم تصدير إنتاجها للخارج، وإلزامها بالبيع إلى وزارة الخزانة.

    لكن الحرب الحقيقية على الذهب بدأت عندما اهتزت الثقة بالدولار، حيث أدت الصراعات الجيوسياسية، مثل بناء جدار برلين، وأزمة الصواريخ الكوبية، وتصاعد العنف في فيتنام، إلى تزايد الإنفاق العسكري للولايات المتحدة، الأمر الذي أدى إلى تزايد العجز في ميزانيتها، وقد نشرت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية مذكرة حددت فيها الإستراتيجية الأمريكية.

    تقول المذكرة: "نحن نخسر نفوذنا في العالم عندما يكون الدولار ضعيفا في سوق الصرف، أو يكون هناك تدفق كبير للذهب، نحن مضطرون للضغط على الدول لتحتفظ بالدولار، فاستراتيجيتنا هي أن نعزل أسواق الذهب الرسمية عن الخاصة، عن طريق الحصول على تعهد من المصارف المركزية، بأنها لن تشتري الذهب وتبيعه، إلا فيما بينها، وأن ندفع جنوب إفريقيا لتبيع إنتاجها منه في الأسواق الخاصة، وهذا كفيل بإبقاء الأسعار عند مستويات منخفضة".

    أدارت الولايات المتحدة سوق الذهب في العالم، ففي اجتماع لرؤساء المصرف المركزي في "مصرف التسويات الدولية" الذي أشرنا إليه من قبل، اتفق على أنه إذا حاول المستثمرون اللجوء إلى الذهب، بوصفه ملاذا آمنا، فإن "مركز ذهب لندن" سيغرق السوق بالذهب لمنع أسعاره من الارتفاع، وبالرغم من ذلك تم حل هذا المركز في مارس عام 1968 لأن فرنسا أوقفت تعاونها معه، وبقي مغلقا لأسبوعين، وارتفع سعر الذهب في الأسواق الأخرى حول العالم.

    نسق الأمريكيون مع صندوق النقد الدولي منذ عام 1975 للتحكم في سوق الذهب، عن طريق تفريغ أطنان منه في السوق، فالصندوق يتلقى معظم مخزونه منه من الدول الأعضاء، وقد قام بتغيير جوهري في دور الذهب، بإيقاف استخدامه، بوصفه عاملا مشتركا بين دول العالم في سوق الصرف، بعد الحرب العالمية الثانية، وأنهى استعماله الإلزامي في التعاملات بينه وبين الدول الأعضاء فيه.

    مواصلة الحرب

    بالرغم من استعادة الثقة بالدولار في الثمانينيات، واصل مصرف الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي حربه على الذهب، ففي مارس 1993 ناقش المجلس تأثير أسعار الذهب في توقعات التضخم، فعندما يتشكك الناس في قيمة الأوراق النقدية، يميلون للجوء إلى الذهب، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعاره.

    كان "جرينسبان" قد شرح أن انخفاضا في سعر الذهب، من شأنه تخفيف توقعات التضخم، وأصبحت كميات كبيرة من ذهب المصارف المركزية متاحة للبيع في السوق المفتوحة، وبيعت كميات كبيرة منه بهذه الطريقة في نهاية التسعينيات، لإغراق السوق، فانخفاض سعره يدعم الدولار، بوصفه عملة احتياطية للعالم.

    في كتابه "حروب المال" يتحدث "جيم ريكاردز" عن كيفية إصدار دولار جديد في أمريكا، بحيث يكون مدعوما بالذهب، وتكون قيمته 10 أضعاف الدولار القديم، هذا في ظل السرية التامة التي يحيط بها الصينيون إستراتيجيتهم المالية، ومن المعروف أنهم يخزنون كميات هائلة من الذهب، منذ بداية الأزمة الائتمانية، فهم يعرفون أن الذهب يستخدم مرارا، في إعادة بناء الثقة، كلما وصلت الأوراق المالية إلى حافة الهاوية.

    وكالة أنباء الصين "شينخوا" أعلنت في بداية عام 2013 أن الوقت قد حان لإنهاء أمركة العالم، وتحدثت عن الحاجة إلى نظام مالي عالمي جديد، لا يعتمد على الولايات المتحدة، ويحترم مصالح الدول جميعا، سواء كانت غنية أم فقيرة، صغيرة أم كبيرة، بحيث يكون التعامل معها على أساس المساواة.

    موقف الرئيس بوتين يشبه الموقف الصيني، فقد انتقد الرئيس الروسي الامتيازات التي تتمتع بها أمريكا في النظام الحالي، قال: "إنهم – يقصد الأمريكيين - يعيشون مثل الطفيليات على الاقتصاد العالمي، واحتكارهم للدولار" ودعا إلى عملة احتياطية عالمية، في وقت سابق أظهر ديمتري ميدفيديف عملة ذهبية، بوصفها نموذجا لعملة عالمية مستقبلية، وذلك في قمة مجموعة العشرين.

    الذهب أصل مالي، وليس مجرد معدن ثمين، وبسبب الظروف المالية في العالم، سيظل الذهب والأصول الثابتة الأخرى، مرغوبا فيه أكثر للاستثمار، وبالتالي فإن روسيا والصين يدركان أن نظام الدولار الحالي في مراحله الأخيرة، وأن الذهب سيكون على الأغلب جزءا من أي نظام نقدي عالمي، ويظل القول القديم المعروف في الشرق منذ آلاف السنين: "يرسي القواعد من يمتلك الذهب" قائما وراسخا.

    يتوقع ريكاردز صاحب "حروب المال" من الصينيين "طلب مقعد على طاولة المصارف المركزية لوضع استراتيجية مستقبلية" ويحذر من احتمال عدم تردد الولايات المتحد ة في مصادرة حيازات الذهب الأجنبية، المخزنة في الاحتياطي الفيدرالي، في نيويورك، في حال حدوث ذعر مالي آخر من أوضاع الدولار، وذلك من أجل طرح دولار جديد مدعوم بالذهب، فطرح أمريكا لمعيار الذهب، سيكون ضروريا، لتجنب الفوضى، واستعادة الثقة.

    قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى كان معظم العملات الرئيسية مدعوما بالذهب، وذاك عصر معيار الذهب، حيث كان عرض المال مقيدا بنمو احتياطي الذهب، لكن حاجة الدول الأوروبية المتزايدة إلى تمويل تكاليف الحرب، دفعت بها إلى التخلي عن معيار الذهب، لكي يتسنى لها طباعة مزيد من المال، واستبدلت تلك الدول -إضافة إلى الدول الأخرى - معيار الذهب بنظام النقد الورقي.

    خلافا للنقد الورقي حافظ الذهب على قوته الشرائية، فعملة ذهبية قديمة تزن 8 جرامات، تشتري لك الكثير، تماما كما كان الأمر منذ ألفي عام، وهذا هو سبب استخدام الذهب، لتحقيق الاستقرار في أنظمة النقد الورقي، في أوقات إعادة ترتيب النقد في الماضي.

    سعر الذهب أشبه بالبارومتر وارتفاع سعره بمثابة تحذير للمستثمرين، بوجود خطأ في عملتهم، ويتسبب في هذا الخطأ المصارف والبنوك، اليت تطبع كثيرا من المال، ومنذ أن فصلت الولايات المتحدة الدولار عن معيار الذهب في عام 1971 أصبح الذهب العدو المالي الأول لوول ستريت والبيت الأبيض، لأن سعر الذهب مؤشر يقلقهم، حيث يشير سعره إلى انخفاض قيمة الدولار.

    هذا بالنسبة إليهم أشبه بطائر الكناري في مناجم الفحم (كان عمال المناجم يأخذون معهم طائر كناري بقفص في أثناء تقدمهم في المنجم، فإن وجدت غازات سامة مات الطائر فورا، قبل أن تؤثر الغازات في الإنسان، وبذلك يكون الطائر بمثابة إنذار للعمال فيخرجون من المكان).

    نظام أشبه بشخص مريض

    يقدم ويليام ميدلكوب في كتابه "الانهيار الكبير حروب الذهب ونهاية النظام المالي العالمي" (ترجمة ابتسام محمد الخضراء) الأدلة المطلوبة للقول بوجود حرب سرية على الذهب، تخوضها الولايات المتحدة ومحافظو مصارف مركزية آخرون، منذ ستينيات القرن الماضي، بدأ ذلك عندما تعرض الدولار للضغط لأول مرة، في نهاية الحرب العالمية الثانية.

    في وقتنا الحاضر لم يعد هناك من عملة آمنة، حتى الفرنك السويسري، فقد أصدر المصرف المركزي السويسري في عام 2012 قرارا يقضي بربط الفرنك باليورو، لكبح جماح مزيد من الارتفاع في قيمته، ما يشكل ضررا على قطاع السياحة والصادرات السويسرية.

    بغرض مكافحة التداعيات الاقتصادية الناجمة عن أزمة الائتمان، أطلقت عدة دول لعجزها المالي العنان، ليزداد بصورة دراماتيكية، ولدفع قيمة الفواتير المترتبة عليها، ترتب على حكومات تلك الدول بيع كميات هائلة من السندات، لكن أعدادا متزايدة من المستثمرين، توقفت عن شراء هذه السندات، فما كان من المصارف الرسمية إلا اللجوء إلى الطريقة الوحيدة بتشغيل مطابع المال (الرقمية) وبهذا الأسلوب تم شراء الديون المتراكمة والسندات الحكومية.

    يصف الاقتصاديون هذه العملية بتسييل الديون من قبل المصارف المركزية، وتشير كتب الاقتصاد إلى هذا الإجراء، باسم (الخيار النووي) الذي يجب اللجوء إليه عندما لا تتوافر أي وسيلة أخرى للتمويل، فمن السهل البدء بهذه العملية، لكن من المستحيل إيقافها.

    لا تزال الجامعات في أنحاء العالم تروج لفكر مدرسة شيكاغو للاقتصاد، وترتكز عقيدتها على إنتاج نقود ورقية، من قبل المصارف المركزية، بالتعاون مع المصارف الخاصة، ولا يزال الطلاب هذا يدرسون مثل هذا الفكر في كتب الاقتصاد، التي تقوم على نماذج أسواق منتهية الصلاحية، وهي نماذج كانت فاعلة قبل أزمة عام 2008.

    يوضح ويليام ميدلكوب في كتابه أنه عند الوصول إلى هوة ما، فإن تغييرا كبيرا، هو وحده ما ينقذ النظام النقدي العالمي، ولا شك أنهم سيصلون إلى هذا الإدراك عندما يقفون مكتوفي الأيدي حيال إعادة تمويل الديون، ويشرح السبب الحقيقي للقول إن التراكم المتزايد للديون، في حساب الميزانيات العمومية للمصارف المركزية، لا يساعد الاقتصاد على التعافي، على أن صناع القرار سيختارون دوما دفع إعلان الموت المحتمل لهذا النمط الاقتصادي، إلى وقت لاحق، بدلا من الإقرار باقتراب ساعته.

    هذا النظام – كما يشير الكتاب – أشبه بشخص مريض، لا يسعه سوى الأمل ببضع سنوات أخرى من البقاء حيا، بالاعتماد على أقوى الأدوية التي تحافظ على سير عملياته الحيوية بعض الوقت، ولن يعود هذا المريض قويا كما كان قبل المرض بأي حال من الأحوال، لكن الزيارات المكثفة للمستشفيات والصيدليات قد تؤجل أمرا محتوما، لا سبيل إلى اجتنابه.

    إن ما يقوم به محافظو المصارف المركزية والسياسيون لا يتعدى كونه شراء للوقت، على أمل إطالة المرحلة النهائية من لعبة النظام المالي العالمي الحالي، لكن هذا لا ينفي أن هناك من بدأوا يستعدون - في السر- لإعادة الترتيب، وهو المطلوب لنقل النظام المالي إلى المستوى اللاحق، وقد جرت إعادة ترتيب مماثلة عند بدء التعامل بالدولار عام 1944.

    فيما يشبه النبوءة يقول ويليام ميدلكوب: "في اعتقادي أنه سيحتاج النظام المالي العالمي إلى نموذج جديد، يكون فيه الذهب اللاعب الأبرز، وسيفقد الدولار مكانته، بوصفه عملة احتياطية فريدة وحصرية، وستبرز دول مثل الصين، ويكون لها دور أقوى بكثير".

    نظام مالي جديد

    على الرغم من أن الولايات المتحدة تفهم أن الدولار سيفقد مكانته بوصفه عملة احتياطية للعالم ذات يوم، فإن الأمريكيين سيحاولون الحفاظ على تفوقهم النقدي، بقدر ما يمكنهم ذلك، وفي الواقع كان واضحا بالنسبة إلى الأمريكيين في عام 1971 أن نهاية النظام القائم على الدولار قد اقتربت، حتى إن نيكسون قال يوما: "سنضغط من أجل إنجاز الإصلاحات اللازمة لإقامة نظام مالي جديد".

    يرى "ويليام ميدلكوب" أن النظام المالي يمكن أن يتغير، إذا اتفق الشركاء الأساسيون على التغيير، وهناك مشكلتان رئيسيتان في هذا النظام يجب معالجتهما: نهاية دور الدولار بوصفه عملة احتياطية للعالم، والنمو الجامح في الديون والميزانيات العمومية للمصارف المركزية، ففي عام 2013 دعا الصينيون إلى بحث تقديم عملة عالمية احتياطية جديدة، لتكون بديلا عن الدولار، فقد درس الصينيون الوضع المالي، وفكروا ببدائل ممكنة، لكن نظرا لحساسية القضية لم يذكروا شيئا في العلن.

    هناك شيء واحد مؤكد في معظم الأزمات المالية، وهو أن مقتني الذهب والفضة يكونون بمنأى عن التأثيرات السلبية للأزمات، لأن الذهب ليس دينا مستحقا لأي جهة، لقد أوقفت الصين شراء سندات الخزانة الأمريكية عام 2010 وأصبحت تعتمد على الذهب أكثر من أي وقت مضى، واشترى الروس الذهب بكميات كبيرة أكثر من أي وقت مضى.

    كذلك منذ بداية أزمة عام 2008 المالية، تبدو جهود الولايات المتحدة واضحة، في استمرار حربها على الذهب، في إشارة إلى أن الذهب قد يكون جزءا مهما من التحول المالي الجديد، وإلا فسيكون على الأقل هو الملاذ الآمن، عندما تهب العاصفة.

    هذا التحول سينقل النظام المالي إلى المرحلة اللاحقة، فالجهات المشاركة في هذا النظام (الولايات المتحدة، دول اليورو، مجموعة البريكس، اليابان، الشرق الأوسط) لديها كثير مما هو معرض للخسارة، إذا ظلت تنتظر طويلا، حتى تبدأ بإجراء التغييرات اللازمة، وتعلم الولايات المتحدة أن لديها الكثير الذي تخسره، وتفهم أنها يجب أن تأخذ زمام المبادرة من جديد.

    بعد الانهيار المالي عام 2008 نشرت الأمم المتحدة تقريرا يقول إن الخلل في التوازن العالمي، الذي أثر بصورة مهمة في الأزمة، لا يمكن معالجته إلا إذا كانت هناك طريقة للتعامل مع الأخطار الاقتصادية الدولية، أفضل من النظام الحالي القائم على الاحتياطيات الدولية المتراكمة.

    نشر صندوق النقد الدولي تقريرا يبحث في إمكان نشوء نظام مالي، من دون الاعتماد على الدولار، يقول ديفيد مارش، رئيس منتدى المؤسسات النقدية والمالية الرسمية (تأسس في لندن عام 2008 بواسطة صحفيين كانا يعملان في الفايننشال تايمز): "يمثل هذا بداية لنظام احتياطي، متعدد العملات، وعهدا جيدا في عالم المال، فلأكثر من 150 عاما كانت هناك عملتان احتياطيتان فقط للعالم، كان الإسترليني هو العملة الاحتياطية حتى الحرب العالمية الأولى، ومن ثم أصبح الدولار هو العملة الاحتياطية الأساسية، على مدى المئة عام الماضية، وأصبح اليورو منذ ولادته في عام 1999 بوصفه عملة أوروبية موحدة، هو العملة الاحتياطية الثانية في العالم، لكن من الواضح اليوم أن هناك دورا للعملات الأصغر".

    يشير التقرير إلى أن دور الذهب في عملية الانتقال إلى نظام الاحتياطي متعدد العملات، سيكون مسألة مهمة، إذ ربما يؤثر بصورة أكبر في مدة الانتقال، ومن المرجح أن تكون هناك فترة من التقلبات في قيم العملات، حيث ستحاول الأطراف الفاعلة في السوق تحقيق توازن جديد، وهنا تبرز أهمية الذهب، بوصفه أصلا .

    لازدياد الفجوة المبنية على الحط من قيمة العملة، من المحتمل أن يؤدي هذا كله إلى تصاعد أهمية الذهب، بوصفه ملاذا آمنا في وجه العملات المتذبذبة، وفي حين يحاول المجتمع الدولي مواجهة هذه التحديات، يبدو الذهب منتظرا فرصته المناسبة، ولأول مرة منذ سنين يبدو مؤهلا مرة أخرى للتأثير بصورة مركزية، حيث يمكن أن تكون هذه المرحلة مهمة في تاريخ المال في العالم.

    يقول جيلي زيلسترا - الرئيس الأسبق للمصرف المركزي الهولندي - في سيرته الذاتية: "فرضت القيمة الجوهرية للذهب، جنبا إلى جنب، مع صورته الرومانسية نفسها، على الإطار العام للمنظومة النقدية الدولية، حتى الستينيات، ربما كان الذهب مرجعية غير عقلانية تماما، لكنها مرجعية مستقرة، إلا أن الأمر تغير في نهاية المطاف، ليس لأن التفاهمات القديمة استبدلت بتفاهمات أحدث منها، لكن لأن الولايات المتحدة وجدت في الذهب تهديدا للدولار".

    ربما تجد الولايات المتحدة أنه من المفيد استعادة استعمال الذهب، لدعم الدولار حتى أن بعض الاختصاصيين الأمريكيين، في هذا المجال، قد دعوا علنا للعودة إلى معيار الذهب، وأحد هؤلاء روبرت زويليك الذي كتب رسالة مفتوحة نشرتها الفايننشال تايمز بعنوان "إعادة معيار الذهب" جاء فيها: "يجب على مجموعة العشرين أن تكمل برنامج استعادة النمو، مع وضع خطة لبناء نظام نقدي تعاوني، يعكس الأوضاع الاقتصادية المستجدة، وربما نحتاج إلى أن ندخل في هذا النظام الجديد الدولار واليورو والين والجنيه البريطاني والرنمينبي الصيني، الذي يتجه نحو التدويل، ومن ثم إلى حساب رأس مال مفتوح".

    "على هذا النظام كذلك أن يأخذ في الحسبان توظيف الذهب، بوصفه نقطة مرجعية دولية، لتوقعات السوق، بشأن التضخم والانكماش، وقيم العملات، في المستقبل، وعلى الرغم من أن الكتب الدراسية ربما تعرض الذهب، بوصفه عملة قديمة، إلا أن الأسواق اليوم تستعمل الذهب، بوصفه أصلا نقديا بديلا، إن تطوير النظام النقدي حتى يحقق نجاحا، سيستغرق وقتا طويلا".

    يقول "مندل" أحد مهندسي عملة اليورو، الذي عمل مستشارا للحكومة الصينية: "أصبح في وسع المصارف، أن تستخدم الذهب، بوصفه أصلا في التداول فيما بينها، والنقطة التي تقف في صالح الذهب، هي أنه لا يمكن طباعته، وعليه فإن لديه ما يكفي من القوة والضمان، ليثق الناس فيه، فالذهب قد يؤدي دور الوسيط".

    ربما تكون عملية التحول المخطط لها، مكونة من مراحل مختلفة، فالولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي يخططان لنظام احتياطي، متعدد العملات، خلفا لنظام الدولار الحالي، لكن يبدو أنه نظام يكون الدولار فيه في القلب، مع مجموعة من العملات المهمة الأخرى.

    المقايضة الدولار الذهب