الجمعة 29 مارس 2024 02:32 مـ
مصر وناسها

    رئيس مجلس الإدارة محمد مجدي صالح

    غطاطي للإطارات
    المقالات

    المعتزلة.. بارقة الأمل التي انطفأت

    حسن إسميك
    حسن إسميك

    صادفت ذات مرة في أحد شوارع مدينة ميونيخ الألمانية التجارية التي كنت أزورها، شخصاً أعرفه تمام المعرفة سأسميه في هذا المقال "صاحبي"، ولن أبوح باسمه لأنه من الدعاة المشهورين الذين بدأوا مشوارهم في الوعظ والإرشاد من المساجد ثم تطوّر فصار داعية على منصات التواصل الاجتماعي يلقي مواعظه بالكتابة تارة وبالصوت والصورة تارة أخرى.

    دعوت صاحبي الى تناول مشروب دافئ في مقهى رصيف قريب، وجلسنا الى إحدى الطاولات تحت شمس بافاريا التي نادراً ما تكون مشرقة كما في ذلك اليوم. وبينما كنا نتجاذب أطراف الحديث، مرّ بين الطاولات رجل توحي سحنته بأنه ليس من أصول ألمانية. كان ضعيف البنية رثّ الثياب تلوح عليه علائم التشرد. تعثّر أرضاً وكاد يصطدم بطاولة تجلس إليها سيدة بدت في العقد السادس من عمرها، فاستشاطت غضباً ونهرت الرجل بصوت مرتفع، وتلفظت ببعض الكلمات العنصرية التي بدا أن الرجل فهمها، فانكفأ على نفسه يشعر بالحزن والإهانة.

    سارع الجالسون إلى الطاولات القريبة منه إلى مساعدته ودخلوا في نقاش حاد مع السيدة رافضين تعاملها السيئ هذا. وبقيت أنا وصاحبي نراقب المشهد عن بعد، إذ ليس ثمة حاجة لتدخّل المزيد من الأشخاص. عبّرت أمام صاحبي عن حزني على المشرّد المسكين وفرحي في الوقت نفسه من وقوف الآخرين إلى جانبه ضد المرأة التي عنّفته على ضعفه وعرقه، فأجابني معلقاً على فعلتها: "هذا طبيعي، فغير المسلمين لا يعرفون أخلاقاً ولا قيماً، ولا يعرفون أن الناس سواسية لا فرق بين غني وفقير، وقد نزع الله من قلوبهم الرحمة والتعاطف".

    أدهشتني كلماته أيّما دهشة، ونظرت إليه غير مصدق أن يكون هذا رأيه وهو الداعية والمبشّر، والعالم بأمور الدين والخبير بالطبيعة البشرية التي يخاطبها في إرشاده ومواعظه. وإذ خشيت أنني لم أسمعه جيداً أو ربما قال كلاماً لا يقصده، فكّرت في طرح سؤال عليه علّني أعرف من الإجابة إن كان ما سمعته هو حقاً ما يعتقد به.

    وسأنقل ما قاله حرفياً خلال محادثتنا، وأعلم أن ظاهر حججه هذه يجعل من يسمعها يظنها صحيحة بلا أدنى شك.

    بعد شرود قصير خلف خطوات ذلك الأجنبي الفقير الذي مضى ببطء في طريقه الطويل، التفتُّ الى صاحبي وسألته: "هل تظن أن الأخلاق منبعها الدين؟" نظر إليّ بحذر لثانيتين أو ثلاث كأنما يتوجس فخاً في السؤال، ثم قال مشدداً على مخارج الحروف: "نعم... لا أخلاق بلا دين، وكيف تتوقع الأخلاق ممن لا يؤمن بالله أصلاً، فمن لا يعرف الله ولا يخافه لا يرتدع عن فعل أي شيء". قاطعته مضطراً وقد احتدّت نبرتنا وطغت الجديّة على كلماتنا: "على رسلك يا شيخ، فنحن نتحاور ولا نلقي عظة، لقد أجبتني عن سؤالي في أول كلمة نطقتها، ولدي بعض الاستفسارات الأخرى قبل أن تمضي في حديثك علني أفهم تماماً ما تقول".

    "تفضل"، قال صاحبي، فتابعت: "أليس الخير والشر هما معيار الأخلاق، فما كان خيراً كان خلقاً عظيماً، وما كان شراً كان مذموماً؟" أجاب: "نعم، وفعل الخير يؤجر صاحبه، وفعل الشر يؤثم صاحبه". قلت: "نعم، هذه من عدالة الله الذي أوجب ثوابه وأنزل عقابه، لكن ما أريد أن أصل إليه معك هو أن توافقني على أن الخير هو الحسن والشر هو القبيح". وهنا قال: "نعم الخير هو الحسن والشر هو القبيح، وقد أمرنا الله بالحسن ونهانا عن القبيح". فقلت: "هو كذلك، فالله طيّب لا يأمر إلا بطيب ولا يقبل إلا طيباً، لكن حدثني عن مصدرهما، أقصد الحسن والقبيح، هل هو الدين الذي أنزله الله أم العقل الذي أنعم الله به على البشر ليميّزوا الخير من الشر والطيبات من الخبائث؟".

    وهنا اندفع صاحبي شارحاً: "مصدر الحسن والقبيح هو الدين والدين فقط، لأن عقل الإنسان محدود وخطأه وارد، وهو معلق بالسهو والنسيان، كما أن تفاوت العقول سيؤدي الى تفاوت الأحكام، ناهيك أن الناس قد تتنازعهم أهواؤهم ورغباتهم فينحرفون عن العقل، فلا يبقى لهم إلا الدين مصدراً موثوقاً يمكن الاطمئنان إليه".

    وهنا عقبت قائلاً: "حسنٌ، لكن أخبرني، أليس الدين حسناً والكفر بالله قبيحاً؟" ولما أجاب بنعم، تابعت: "عندما يختار الإنسان أن يكون مسلماً، أو يتجنّب الكفر ويدخل في الإسلام، أفلا يكون انتقى الحسن وابتعد عن القبيح بعدما ميّز بينهما بعقله؟ ألا يعني ذلك أن معرفة العقل بالحسن والقبيح سبقت دخوله في الدين؟".

    أصرّ صاحبي على موقفه إصراراً لم أتوقعه، ونفى ما ذكرته نفياً قاطعاً، قائلاً إن "هذا الأمر يتعلق بالهداية، ذلك أن الله يمنّ على الناس ويكرمهم بهدايتهم، وهو يهدي من يشاء". فسقت على سبيل الاعتراض أمثلة على مسلمين كثيرين لم يكونوا على خلق حسن، في مقابل أشخاص من ذوي الخلق الحسن مع أنهم من غير المسلمين، وبالعقل تكون هداية الله لمعرفة الخير والشر، سواء عند من آمن بالله أم لم يؤمن. وعدت إلى المرأة التي لم تغادر المقهى بعد، هي غير مسلمة كما يبدو وفعلت ما فعلت، لكن من وقف ضدها ولامها على فعلتها وانتصر للرجل المسكين هم أيضاً مثلها من غير المسلمين ومن أبناء جلدتها.

    ظننت أن كلامي هذا سيجعل صاحبي يعيد حساباته سريعاً، أو ربما كان هذا ما تمنيته، لكنه على العكس تماماً، أدخلني في لجة كلام لا طائل منه، إذ اعتبر أن "هذه حالات قد تصادفها، لكنها لا تصنع فرقاً ولا تغيّر من القاعدة الأساسية، إنما الأعمال بالنيات، وكل فعل لا يكون خالصاً لله فهو مردود ولا يُقبل منه شيء، فقد خلقنا الله لعبادته ويجب علينا أن نبتغي مرضاته في كل فعل وسلوك وخلق". قلت له: "ما أسهل أن تحاول إثبات رأيك الضعيف بإسناده للدين بينما أحاول أن يكون العقل هو الحكم بيننا، لو أن المعتزلة ما زالت قائمة لربما كنا في غنى عن كل هذا السجال".

    اندهش الرجل من ذكر المعتزلة أمامه مستنكراً استشهادي بفرقة "ضالة" على حدّ تعبيره، أما أنا فتجاهلت اعتراضه وبدت عليّ الرغبة في إنهاء الحديث، وأشحت بنظري بعيداً، أتأمل تاريخ الدولة الإسلامية وعصر المأمون على وجه التحديد. ففي تلك الأيام، اتخذ المعتزلة من الرأي الحر منهجاً، وحاربوا الخرافة والشعوذة ورفعوا من شأن العقل، مؤكدين مسؤولية الإنسان عن اختيار أفعاله، لأن العقل في نظرهم هو الأصل الأول في الإيمان والحياة، وهو يُميز بين الحَسن والقبيح، وبه تُعرف حجج الكتاب والسنّة والإجماع.

    وخلافاً لما أشيع عنهم، اعتبر المعتزلة أن وثوب العباسيين على الحكم كان اغتصاباً للسلطة، ما عرّضهم للموت أو الزجّ في غياهب السجون حتى عصر هارون الرشيد. لكن مع وصول حفيده المتوكل إلى سدة الحكم، بدأت نهاية المعتزلة، وسرعان ما طُويت صفحة هذه الفرقة في تاريخ الإسلام الفكري والسياسي. فهل كان القضاء عليهم خيراً أم تبديداً لفرصة ثمينة يستدعي ضياعها الأسف والحزن؟

    في الحقيقة، إن الفكر الحر الذي جاء به المعتزلة، كان تقدمياً على نحو غير مسبوق، فحرّك المياه الراكدة وأنعش الفكر الإسلامي وطوّره، لا سيما أنه حمل لواء الدفاع عن العقيدة لإنقاذها من الجمود والأصولية. ولم يقطع فكرهم صلة الإنسان بعمقه الروحي، كما ميزوا بين ما هو "مطلق" من القيم وما هو "نسبي".

    ولو ظلوا بيننا لساهموا في نهضة الحضارة الإنسانية وتقدمها، ولكنهم غابوا، هم وكثيرون غيرهم، فضاعت بوصلة التقدم والحضارة، وهاجر العلم باتجاه الغرب. أفلا ينبغي علينا اليوم أن نعيد التفكير في هذه الفرصة الضائعة من خلال إعادة الاعتبار إلى العقل والإرادة، علّنا نسترد ما خسرناه من قبل؟ ومن يدري فقد يكون مكسبي الشخصي حينذاك حواراً أمتع من المناقشة التي خضتها مع صاحبي، وحديثاً أكثر انفتاحاً ندافع فيه عن عقل الإنسان وحرية اختياره ونحن نرتشف شراباً منعشاً تحت شمس بافاريا الدافئة في يوم استثنائي آخر؟

    حسن إسميك